الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنَ التَّفْسِيرِ.فَهَذَا بَيَانٌ لَكُوِنِ أَصْلِ الدِّينِ يَقْتَضِي سَعَادَةَ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي عَهْدِ آدَمَ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى عَلَى نُوحٍ، وَهُوَ الْأَبُ الثَّانِي لِلْبَشَرِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ فِي سُورَتِهِ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (11: 52) وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا حُجَجٌ عَلَى أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ، وَمِنْ غَيْرِهِمُ الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ- وَكَذَا كُلُّ دِينٍ إِلَهِيٍّ- سَبَبٌ لِلضَّعْفِ وَالْفَقْرِ!{وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ الْخُرَافِيَّةِ، وَالْمَعَاصِي الْمُفْسِدَةِ لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَكَانَ أَخْذُهُمْ بِالْعِقَابِ أَثَرًا لَازِمًا لِكَسْبِهِمْ بِحَسَبِ سُنَنِ الْكَوْنِ، وَعِبْرَةً لِأَمْثَالِهِمْ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ.{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ إِنْذَارٌ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَرَبِهَا وَعَجَمِهَا مِنْ عَصْرِ النُّورِ الْأَعْظَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِتَعْتَبِرَ بِمَا نَزَلَ بِغَيْرِهَا كَمَا تَرْشُدُ إِلَيْهِ الرَّابِعَةُ مِنْهَا، وَأَهْلُ الْقُرَى فِيهَا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ؛ أَيِ: الْأُمَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَضْعَ الْمُظْهَرِ فِيهِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ خَاصًّا بِأَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَذْكُرُ ضَمِيرَهُمْ، بَلْ هُوَ قَوَاعِدُ عَامَّةٌ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَيُرَادُ بِالِاسْمِ الْمُظْهَرِ الْعُنْوَانُ الْعَامُّ لَهَا، لَا آحَادَ مَا ذُكِرَ مِنْهَا، وَلَوْ ذَكَرَهَا بِضَمِيرِهَا أَوِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي يُعَيِّنُهَا؛ لَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِقَابَ كَانَ خَاصًّا بِهَا لَا دَاخِلًا فِي أَفْرَادِ سُنَّةٍ عَامَّةٍ، وَهَذَا عَيْنُ مَا كَانَ يَصْرِفُ الْأَقْوَامَ الْجَاهِلَةَ الْكَافِرَةَ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِعِقَابِ مَنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى عَاصِمَةِ قَوْمِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَعَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ، وَسَائِرِ قُرَى الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثَ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْثَتَهُ عَامَّةٌ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّذْكِيرِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ أَمْرٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْعَاقِلِ، وَالْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَغَرَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَأَمِنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا؟ إِلَخْ. وَعَلَى الثَّانِي أَجَهِلَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى الَّتِي بَلَغَتْهَا الدَّعْوَةُ- وَمِثْلَهَا مَنْ سَتُبْلُغُهَا- مَا نَزَلْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَغَرَّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَأَمِنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُنَا وَقْتَ بَيَاتِهِمْ- أَوْ إِتْيَانَ بَيَاتٍ- وَهُوَ الْهُجُومُ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا وَهُوَ بَائِتٌ، فَقَوْلُهُ: {وَهُمْ نَائِمُونَ} حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لِغَايَةِ الْغَفْلَةِ وَكَوْنِ الْأَخْذِ عَلَى غِرَّةٍ، كَمَا قَالَ فِيمَنْ عُذِّبُوا: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} وَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، أَوْ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى بِحَسَبِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَأَمِنُوا ذَلِكَ الْإِتْيَانَ أَوْ هَذَا؟ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْنَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أُعِيدَ الِاسْتِفْهَامُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِنُكْتَةِ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا، وَالضُّحَى انْبِسَاطُ الشَّمْسِ، وَامْتِدَادُ النَّهَارِ، وَيُسَمَّى بِهِ الْوَقْتُ، أَوْ ضَوْءُ الشَّمْسِ فِي شَبَابِ النَّهَارِ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالْلَّعِبُ- بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ- مَا لَا يَقْصِدُ فَاعِلُهُ بِسَبَبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ بَلْ يَفْعَلُهُ لِأُنْسٍ لَهُ بِهِ أَوْ لَذَّةٍ لَهُ فِيهِ كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ، وَمَا يَقْصِدُ بِهِ الْعُقَلَاءُ رِيَاضَةَ الْجِسْمِ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّعِبِ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مَجَازِيًّا بِحَسَبِ صُورَتِهِ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ صُورَتُهُ لَعِبٌ أَوْ هَزْلٌ، وَحَقِيقَتُهُ حِكْمَةٌ وَجَدٌّ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ كَالْعَمَلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ نَافِعٌ وَهُوَ ضَارٌّ، وَمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ حِكْمَةٌ وَهُوَ عَبَثٌ وَخَرْقٌ، وَقَدْ يَكُونُ إِطْلَاقُ اللَّعِبِ عَلَى أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الْغَافِلِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ أَيْ: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُنَا فِي وَقْتِ الضُّحَى، وَهُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ لَعِبِ الْأَطْفَالِ لِعَدَمِ فَائِدَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مُطْلَقًا، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ؟!فَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى مِنَ الْغَابِرِينَ فَالظَّاهِرُ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا آمِنِينَ إِتْيَانَ هَذَا الْعَذَابِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَكَانَ إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ فَجْأَةً فِي وَقْتٍ لَا يَتَّسِعُ لِتَلَاقِيهِ وَتَدَارُكِهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ لَا يَظْهَرُ فِي شَأْنِهِمْ إِلَّا بِتَأَوُّلٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِهِ فِي أَهْلِ الْقُرَى الْحَاضِرِينَ، وَمَنْ سَيَكُونُ فِي حُكْمِهِمْ مِنَ الْآتِينَ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَأْمَنُوا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ وُجُودَ النِّعَمِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى دَوَامِهَا، فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ زَالَتْ بِكُفْرِ أَهْلِهَا، وَهَذَا مَا كَانَ يَجْهَلُهُ الَّذِينَ قَالُوا: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ، فَرَأَوْا صُورَةَ الْوَاقِعِ وَجَهِلُوا أَسْبَابَهُ، وَأَمَّا الْحَاضِرُونَ فَلَا يُعْذَرُونَ بِالْجَهْلِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الْقُرْآنُ كُنْهَ الْأَمْرِ، وَسُنَنَ اللهِ فِي الْخَلْقِ، وَلَكِنَّ أَدْعِيَاءَ الْقُرْآنِ، قَدْ صَارُوا أَجْهَلَ الْبَشَرِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَيَدَّعِي بَعْضُهُمْ أَنَّ سَبَبَ جَهْلِهِمُ الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ الْقُرْآنِ؟!!أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَكْرُ: صَرْفُ الْغَيْرِ عَمَّا تَقْصِدُهُ بِحِيلَةٍ، وَقَسَّمَهُ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، وَأَصَحُّ مِنْهُ وَأَدَقُّ قَوْلُنَا فِي تَفْسِيرِ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (3: 54) وَالْمَكْرُ فِي الْأَصْلِ: التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ الْمُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يُحْتَسَبُ، وَقْفَيْنَا عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِبَيَانِ السَّيِّءِ وَالْحَسَنِ مِنَ الْمَكْرِ، وَكَوْنِ الْأَكْثَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا كَالشَّأْنِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَحَرَّى إِخْفَاؤُهَا، وَفِيهِ أَنَّ مَكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَدْبِيرُهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ، وَكُلُّهَا خَيْرٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنْ قَصَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ اهـ، وَالْمُرَادُ بِالْجَهْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ اغْتِرَارًا بِالظَّوَاهِرِ، كَأَنْ يَغْتَرَّ الْقَوِيُّ بِقُوَّتِهِ، وَالْغَنِيُّ بِثَرْوَتِهِ، وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَالْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ، فَيُخْطِئُ تَقْدِيرُهُ مَا قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى فَيَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ يَبْقَى، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَارِ فِي ظَنِّهِ لَا يَتَخَلَّفُ، كَمَا أَخْطَأَ الْأَلْمَانُ فِي تَقْدِيرِ قُوَّتِهِمْ وَقُوَّةِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنَ الدُّوَلِ، فَلَمْ يَحْسَبُوا أَنْ تَكُونَ دَوْلَةُ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَكَانَ سَبَبَ أَمْنِهِمْ إِتْيَانَ بَأْسِنَا بَيَاتًا أَوْ ضُحًى وَهُمْ غَافِلُونَ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مَكْرَ اللهِ بِهِمْ بِإِتْيَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَلَمْ يُقَدِّرُوا؟ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ؟ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.وَإِذَا كَانَ أَمْنُ الْعَالِمِ الْمُدَبِّرِ وَالصَّالِحِ الْمُتَعَبِّدِ مِنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالَى جَهْلًا يُورِثُ الْخُسْرَ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ، وَهُوَ مُسْتَرْسِلٌ فِي مَعَاصِيهِ اتِّكَالًا عَلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؟ قَالَ تَعَالَى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (41: 23) فَأَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ وَأَعْبَدُهُمْ لَهُ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ هُمْ أَبْعَدُ خَلْقِهِ عَنِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِهِ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْمَنَ مِنْهُ إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِعِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (20: 110) أَلَمْ تَرَ إِلَى الرُّسُلِ الْكِرَامِ كَيْفَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ مَشِيئَتَهُ حَتَّى فِيمَا عَصَمَهُمْ مِنْهُ؟ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ قُبَيْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا} وَقَدْ كَانَ أَصْلَحُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَدْعُونَهُ بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (3: 8) وَقَالَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (35: 28) وَيُقَابِلُ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ ضِدَّهُ، وَهُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ تَتْبَعُهَا مَفَاسِدَ كَثِيرَةً. اهـ.
|